فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ولمّا بيّن تعالى أحوال المكذبين ذكر أحوال الصدّيقين بقوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا} أي: خافوا عقاب الله {ماذا} أي: أيّ شيء {أنزل ربكم قالوا خيرًا} أي: أنزل خيرًا وذلك أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه فيقولون: ساحر شاعر كذاب مجنون ولو لم تلقه خيرلك فيقول السائل: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وألقاه فيدخل مكة فيرى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث من الله تعالى فذلك قوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم} الآية فإن قيل: لم رفع الأول وهو قولهم أساطير الأوّلين ونصب الثاني وهو قولهم خيرًا أجيب: بأنه ذكر ذلك للفصل بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، وذلك أنهم لمّا سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلًا، ولمّا سألوا المؤمنين عن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وطابقوا الجواب عن السؤال بينًا مكشوفًا مفعولًا للإنزال، فقالوا: {خيرًا} أي: أنزل خيرًا، وتمّ الكلام عند قوله: {خيرًا} فهو وقف تامّ، ثم ابتدأ بقوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} أي: حياة طيّبة أو أنّ للذين أتوا بالأعمال الصالحات الحسنة لهم ثوابها حسنة مضاعفة من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، أو أنه تعالى بيّن أنّ اعترافهم بذلك الإحسان في هذه الدنيا حسنة أي: جزاء لهم على إحسانهم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن] ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: {ولدار الآخرة} أي: الجنة {خير} أي: ما أعدّ الله لهم في الجنة خير مما حصل لهم في الدنيا، ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} أي: دار الآخرة، فحذف لتقدّم ذكرها وقال الحسن: هي الدنيا لأنّ أهل التقوى يتزوّدون فيها للآخرة.
وقوله تعالى: {جنات} أي: بساتين {عدن} أي: إقامة خبر مبتدأ محذوف ويصح أن يكون المخصوص بالمدح {يدخلونها} أي: تلك الجنات حالة كونها {تجري من تحتها} أي: من تحت غرفها {الأنهار} ثم كأنّ سائلًا سأل عما فيها من الثمار وغيرها. فأجيب بأنّ {لهم فيها ما يشاؤون} أي: ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مع زيادات غير ذلك، فهذه الآية تدل على حصول كل الخيرات والسعادات فهي أبلغ من قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف] لأن هذين القسمين داخلان في قوله تعالى: {لهم فيها ما يشاؤون} مع أقسام أخرى وعلى أنّ الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا، لأنّ قوله: {لهم فيها ما يشاؤون} يفيد الحصر {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {يجزي الله} أي: الذي له الكمال كله {المتقين} أي: الراسخين في صفة التقوى، ثم حث تعالى على ملازمة التقوى بالتنبيه على أنّ العبرة بحال الموت فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة} أي: تقبض أرواحهم وقوله تعالى: {طيبين} كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة، مبّرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرّئين عن العلائق الجسمانية، متوجهين إلى حضرة القدس، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح، وأنها لم تقبض إلامع البشارة بالجنة، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها، ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أنّ هذا التوفي هو قبض الأرواح كما مرّ، وإن كان الحسن يقول: إنه وفاة الحشر، واستدل بقوله تعالى: {ادخلوا الجنة} لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا، ادخلوا الجنة، وأجاب الأكثرون بما سيأتي وأدغم أبو عمرو التاء في الطاء بخلاف عنه.
ثم بيّن تعالى أنّ الملائكة {يقولون} لهم عند الموت {سلام عليكم} فتسلم عليهم أوتبلغهم السلام من الله تعالى، كما روي أنّ العبد المؤمن إذا أشرف على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة، ويقال لهم في الآخرة هذا جواب الأكثرين {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} أو إنهم لمّا بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم: ادخلوا الجنة، أي: هي خاصة لكم كأنكم فيها، ولما طعن الكفار في القرآن بقولهم: {أساطير الأوّلين} وذكر أنواع التهديد والوعيد ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيرًا، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم وأقوالهم الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة، وأتاهم أمر ربك فقال تعالى: {هل ينظرون إلاأن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم، وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك {أو يأتي أمر ربك} أي: يوم القيامة وقيل: العذاب، وقيل: إنهم طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله تعالى ملكًا من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى: {هل ينظرون} في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك، وعلى كلا التقديرين، فقد قال تعالى: {كذلك} أي: مثل ما {فعل} هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل {الذين من قبلهم} من الأمم السالفة، كذبوا رسلهم فأهلكوا {وما ظلمهم الله} باهلاكهم بغير ذنب. {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم {فأصابهم} أي: فتسب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم {سيئات} أي: عقوبات أو جزاء سيئات {ما عملوا وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} تكبرًا عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه، والحيق لا يستعمل إلا في الشر، وقرأ {حاق} حمزة بالإمالة والباقون بالفتح.
{وقال الذين أشركوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاء ومنعًا للبعثة والتكليف {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهو اعتقاد باطل، فلذلك استحقوا عليه الذم والوعيد ثم قالوا لهم: {ولا حرّمنا من دونه من شيء} أي: من السوائب والبحائر والحامي فهو راض به وبمشيئته وحينئذ فلا فائدة في مجيئك وفي إرسالك وهذا عين ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله} [الأنعام]الآية.
قال الله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي: من تقدّم هؤلاء من الكفار من الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديمًا في الأمم الخالية ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا في قوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ} أي: الإبلاغ. {المبين} أي: البين فليس عليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه.
ثم بين تعالى أنّ البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضرّ المزاج المنحرف ويفنيه بقوله تعالى: {ولقد} أي: والله لقد {بعثنا} أي: بما لنا من العظمة التي من اعترض عليها قصم. {في كل أمّة} من الأمم الذين من قبلكم {رسولًا} أي: كما بعثنا فيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا. {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعلى وحده، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون في الوصل والباقون بالضم. {واجتنبوا الطاغوت} أي: الأوثان أن تعبدوها {فمنهم من هدى الله} أي: وفقهم للإيمان بإرشاده {ومنهم من حقت} أي: وجبت {عليه الضلالة} أي: في علم الله تعالى فلم ينفعهم ولم يرد هداهم. تنبيه: في هذه الآية أبين دليل على أنّ الهادي والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه فيما حكم به لسابق علمه، ثم التفت سبحانه وتعالى إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال تعالى: {فسيروا} أي: فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من أخبار الرسل فسيروا {في الأرض} أي: جنسها {فانظروا} أي: إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، ثم أشار تعالى بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال: {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} أي: من عاد ومن بعدهم من الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم لعلكم تعتبرون، ولما كان من المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد أعرض عنهم ملتفتًا إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فقال مسليًا له: {إن تحرص على هداهم} فتطلبه بغاية جدّك واجتهادك وقد أضلهم الله تعالى لا تقدر على ذلك ثم قال تعالى: {فإنّ الله لا يهدي من يضلّ} أي: من يرد ضلاله وهو معين لمن حقت عليه الضلالة، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء المفعول. قال البيضاوي: وهو أبلغ. ثم قال تعالى: {وما لهم} أي: هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله {من ناصرين} أي: وليس لهم أحد ينصرهم في الدنيا والآخرة عند مجازاتهم على الضلالة لينقذوهم مما يلحقهم عليه من الوبال كما فعل بالمكذبين ممن قبلهم.
ثم حكى الله عن هؤلاء القوم أنهم ينكرون الحشر والنشر بقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لا يبعث الله من يموت} وذلك أنهم قالوا: إنّ الإنسان ليس هو إلا هذه البنية المخصوصة فإذا مات وتفرّقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه؛ لأنّ الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فكذبهم الله تعالى في قولهم بقوله تعالى: {بلى} أي: يبعثهم بعد الموت فإنّ لفظة بلى إثبات لما بعد النفي والجواب عن شبهتهم أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم، ولم يكن شيئًا فالذي أوجده ولم يكن شيئًا قادر على إيجاده بعد إعدامه لأنّ النشأة الثانية أهون من الأولى، وقوله تعالى: {وعدًا عليه حقًا} مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدّر، أي: وعد ذلك وعدًا وحقه حقًا.
{ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} ذلك، أي: لا علم لهم يوصلهم لذلك لأنه من عالم الغيب، لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله تعالى ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم الله بروح منه لتقيدهم بما يوصل إلى عقولهم أنها قاصرة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير واسطة منه سبحانه وتعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استبعادًا وهو خصيم مبين.
وقوله تعالى: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه} يتعلق بما دل عليه بلى، أي: يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو عامّ للمؤمنين والكافرين والذي اختلفوا فيه هو الحق. {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} في قولهم: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} وقولهم: {لا يبعث الله من يموت} وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله: {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولًا} أي: بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب ثم بين سبحانه وتعالى تيسر الإعادة بقوله تعالى: {إنما قولنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {لشيء} إبداء وإعادة {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} أي: يتسبب عن ذلك القول أنه يكون. تنبيه: قوله تعالى: {قولنا} مبتدأ و{أن نقول} خبره. فيكون وكن من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود،، أي: إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث فيحدث عقب ذلك من غير توقف. فإن قيل: قوله تعالى: {كن} إن كان خطابًا مع المعدوم فهو محال وإن كان خطابًا مع الموجود فكان أمرًا بتحصيل الحاصل وهو محال؟
أجيب: بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول: إنّ لي ولدًا، وأمّا تكذيبه فيقول: ليس يعيدني كما بدأني». الحديث وفي رواية: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأمّا شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الله الأحد {الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدٌ}»، وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفًا على يقول أو جوابًا للأمر والباقون بالرفع، ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم، وحينئذٍ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة، وما لهؤلاءالمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى:^ وقوله تعالى: {أفأمن الذين مكروا السيئات} فيه إضمار تقديره المكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبالقرآن في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أربعة أمور الأوّل قوله تعالى: {أن يخسف الله بهم الأرض} كما خسف بقارون وأصحابه فإذا هم في بطنها لا يقدرون على نوع تقلب بمتابعة ولا غيرها. الثاني قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب} على غير تلك الحال {من حيث لا يشعرون} به فيأتيهم بغتة فيهلكهم كما فعل بقوم لوط عليه السلام. الثالث: قوله تعالى: {أو يأخذهم} أي: الله بعذابه {في} حالة {تقلبهم} ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة وفي تفسير هذا التقلب وجوه أوّلها: أنه تعالى يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر. {فما هم بمعجزين} أي: بفائتين العذاب بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله تعالى حيث كانوا. ثانيها: أنه تعالى يأخذهم بالليل والنهار وفي حال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم، وثالثها: أنّ الله تعالى يأخذهم في حال ما يتقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: {وقلبوا لك الأمور} [التوبة] فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
الأمر الرابع: قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوّف} وفي تفسير التخوّف قولان؛ الأوّل: التخوّف تفعل من الخوف يقال: خفت الشيء وتخوّفته، والمعنى: أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أوّلًا بل يخيفهم أوّلًا ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك قرية فتخاف التي تليها فيأتيهم العذاب، والثاني: التخوّف بمعنى التنقص، أي: أنه تعالى ينقص شيئًا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوّفه إذا تنقصه، وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا. فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا التخوّف التنقص. فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير:
تخوّف (أي: تنقص) الرحل (أي: رحل ناقته) منها تامكًا (أي: سنامًا) قردا (أي: متراكمًا أو مرتفعًا وهو بسكون الراء).
كما تخوّف عود النبعة السفن

والنبعة بالضم واحدة النبع وهو شجر يتخذ منه السفن والسفن بفتح السين والفاء ما ينحت به الشيء وهو فاعل تخوّف ومفعوله عود. فقال عمر: عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم، ومعنى البيت أنّ رحل ناقته ينقص سنامها المتراكم أو المرتفع كما ينقص السفن عود النبعة. {فإنّ ربكم} أي: المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد وقوله تعالى: {لرؤوف} قرأه أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ ومعناه بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة وكذا من قاطعه أتم مقاطعة وإليه أشار بقوله تعالى: {رحيم} أي: حيث لم يعاجلهم بالعذاب، ولما خوّف سبحانه وتعالى المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أنه مع كمال هذه القدرة الباهرة والقوّة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأجسام الأربعة بقوله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} أي: من الأجرام التي لها ظل كشجر وجبل {تتفيؤ} أي: تتميل {ظلاله عن اليمين والشمائل} جمع شمال، أي: عن جانبي كل واحد منهما وشقيه، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب على نسق ما قبله والباقون بالياء على الغيبة إلى ما خلق استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له، وقال قتادة والضحاك: أمّا اليمين فأوّل النهار وأمّا الشمائل فآخره لأنّ الشمس وقت طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي والظلال في أوّل النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض. فإن قيل: ما السبب في ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع؟